في ذكرى تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا[1]
" بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
فمن الإيمان بالله سبحانه وتعالى قيّوم السموات والأراضين..
ومن الإيمان بتكريم الله للإنسان ، واستخلافه له في الأرض..
ومن الإيمان بكل قيم الحق والخير والنور التى بشّر بها ديننا الحنيف..
ومن الإيمان بديمومة الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر في هذه الحياة..
من كل ذلك..
ومن ضراعات الآباء والأمهات..
ومن كرامات وابتهالات الأولياء والصالحين ..
ومن أنّات وصرخات المعذبين والمظلومين..
ومن حبّات عرق كل الكادحين ..
ومن براءة نظرات كل الأطفال..
ومن حشرجة أرواح كل شهدائنا وهي تصعد إلى بارئها..
ومن أثار كل صور البطولة والفداء والتضحية التى ارتسمت فوق أرضنا عبر تاريخنا المجيد
من ذلك كله ..
نستمد التكليف
ونستمد العون والقوة
ونستمد الأمل والثقة .."[2]
إنطلاقة التأسيس..
لا يغيب على المتابعين للحقبة التى شهدت انطلاقة الجبهة في مطلع العقد الماضي[3] انها كانت من أشد الحقب حلكة وظلمة في تاريخ حكم القذافي الاسود ، حيث لم يكتف القذافي خلالها بالانفراد والاستبداد الكامل بكافة الاوضاع في البلاد ، وبتدمير مقدرات ليبيا وثرواتها وبمصادرة الحريات والاعتداء على الاعراض والحرمات والمقدسات ، وبإعتقال الآلاف من أحرار ليبيا حيث مارس زبانيته بحقهم أبشع صور التعذيب والقهر النفسي والبدني، وبتعليق عدد منهم على أعواد المشانق في الميادين العامة ، واطلاق الرصاص على أعداد أخرى من أبناء قواتنا المسلحة الليبية داخل معسكراتهم .. بل أعلن بكل صلف واستهتار بأن " التصفية الجسدية " هي المرحلة النهائية في جدل " ثورته " مع أعدائها .. وفي ظل هذا الشعار أرسل تهديده الصريح بملاحقة معارضيه من أبناء الشعب الليبي حتى ولو كانوا يقطنون القطب الشمالي... وفي ظل هذا الشعار انطلق زبانيته من أعضاء ما يسمى بتنظيم " اللجان الثورية " يحصدون أرواح عدد من الليبيين في عدد من عواصم العالم ، بل ولا يترددون حتى في تسميم أطفال من يشك في معارضته لنظامه ، بل لقد أقدم هؤلاء الزبانية بأمر من القذافي بالهجوم على مقابر عدد من الشهداء داخل ليبيـا ونبش أجداثهم والإلقاء بها في عرض البحر.
وفي هذه الظروف الحالكة السواد ، المليئة بالظلم والرعب والخوف انطلقت أصوات المعارضة الليبية في خارج ليبيا بعد أن سُدّت في وجهها كافة السبل ، وصُدّت أمامها الأبواب للتعبير وللعمل ضد النظام داخل أرض الوطن .. وفي هذه الظروف جاء الإعلان عن تأسيس " الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيـا" راية أخرى من رايات الجهاد الوطني ، داعية كافة الليبيين إلى الكفاح من أجل الإطاحة بحكم القذافي ، وإلى العمل من أجل إقامة نظام حكم وطني ديمقراطي بديل له ، يستند إلى " الشرعية الدستورية " ، التى تنبثق عن الاختيار الحر لكامل الشعب الليبي ، وتستلهم عقيدة شعبنا الإسلامية وتاريخه وتراثه الحضاري .
معاني كبيرة ..
إن إنطلاقة الجبهة في مثل هذه الظروف, وبالشكل الذي تم جسّدت شيئا كبيراً كانت ساحة النضال الوطني في تلك الحقبة أشد ما تكون حاجة إليه .. ونعني به التحدي الصريح القوي المعلن للقذافي وصلفه وطغيانه .. وذلك هو المعنى الأساسي الأول الذي يجدر بنا نحن أبناء الجبهة أن نفخر وأن نعتز به .
كذلك فإن هناك معنى أخر على درجة كبيرة من الأهمية نأمل ألاّ يغيب عن أبناء الجبهة بل وعن كافة الليبيين .. ونعنى به أن قيام المعارضة الليبية خارج ليبيـا في تلك الأونة ، لم يكن خياراً بين أن تقوم في الداخل وأن تقوم في الخارج .. فالمعروف أن القذافي في تلك الفترة بالذات لم يترك أي خيار وأي فرصة لمعارضته والعمل ضده من الداخل ... ومن ثم فقد كان الخيار يومذاك على الأقل بالنسبة للعناصر التى لجأت إلى خارج ليبيا .. هو بين ألاّ تقوم بمعارضة القذافي على الإطلاق ، وبين أن تعمل ضده من خارج ليبيـا... وفي هذا السياق وفي هذا الإطار كان خيار المعارضة التى قامت في الخارج .. والتى لم يغب عنها منذ اللحظات الأولي لقيامها أنه وإن كانت الظروف قد حتمت عليها أن تقوم خارج حدود ليبيـا إلا أن ميدان حسم معركتها مع القذافي هو داخل ليبيـا وفي شتى مدنها وقراها.
برنامج نضالي متكامل ..
إن الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيـا لم تكتف بمجرد الدعوة للإطاحة بحكم القذافي .. ولكنها طرحت لتحقيق هذه الغاية " برنامجاً نضالياً متكاملاً "، يعتمد الكلمة والبندقية ، ويعتمد الحجّة والحركة ، ويعتمد العرق والدم، ويعتمد الجهد والمال.. كما دعت كافة أبنائها وأعضائها إلى المشاركة في هذا البرنامج النضالي والمساهمة في تنفيذه ، كلّ بما في جهده واستطاعته ، وبما حباه الله من إمكانيات وقدرات . وفي ساحة تنفيذ هذا البرنامج التقت كافة أرجاء ليبيـا وبطونها وأجيالها ,, والتقى الشيخ الوقور بالفتى اليافع ، وحرائر ليبيـا بأحرارها .. وذلك فيما نحسب بعد جديد أضافته الجبهة إلى حركة الجهاد والنضال الوطني .. من حقنا جمميعا أن نعتز به .. كما ينبغي علينا أن نذكر لأصحاب كافة المساهمات والتضحيات فضلهم وسابقتهم في تنفيذ هذا البرنامج، وفي مقدمتهم شهداؤنا الابرار ومناضلونا الأحرار الذين ما زالوا يقبعون في سجون الطاغية .
وفضلاً عن ذالك ، وفي ظل هذا البرنامج النضالي الذي طرحته ، فقد قامت الجبهة خلال هذه المسيرة ، ومن أجل تحقيق هدفها الأساسي الأول المتمثل في الإطاحة بحكم القذافي ، بجملة من المبادرات الجهادية والمبادرات النضالية المتواصلة ، التى نحسب أنها سوف تبقى مَعْلَماً بارزاً من معالم جهاد شعبنا ضد حكم القذافي خلال هذه الحقبة .. ونعنى بها :
العملية الجهادية البطولية في مايو 1984 بقيادة أحد مؤسسي الجبهة وعضو لجنتها التنفيذية المجاهد الشهيد البطل " أحمد إبراهيم إحواس " وهي العملية التى استهدفت القضاء على القذافي داخل ثكنته في معسكر باب العزيزية بطرابلس .
استنفار صائفة عام 1985 الذي شارك فيه معظم أبناء الجبهة المقيمين خارج ليبيـا يومذاك، وهو الاستنفار الذي ارتبط بعمل فدائي كانت تخطط للقيام به عناصر داخل البلاد بالتعاون مع الجبهة في تلك الفترة .
المبادرة في شهر يونية من عام 1988 بتأسيس " الجيش الوطني الليبي " كجناح عسكري للجبهة ، وهو الجيش الذي كان قوامه فدائيو الجبهة الذين صاحبوا مسيرتها منذالمراحل الأولي لتأسيسها فضلاً عن الأخوة العسكريين الذين انضموا إلى صفوف االجبهة في تشاد منذ أواخر عام1987 ، وقد شرع ذلك الجيش منذ تأسيسه بالتخطيط وإعداد العدة للقيام بإجتياح عسكري لنظام حكم القذافي عبر حدود ليبيـا الجنوبية وهو المشروع الذي لقى نهايته بسقوط نظام حكم الرئيس حسين هبري في تشاد في أواخر عام 1990.
الشروع في الإعداد منذ أواخر عام 1989 لسلسلة من العمليات الفدائية داخل ليبيا ، وهو الأمر الذي جرى الكشف عنه بتواطؤ إحدي الدول وتمّ على إثره اعتقال عشرات من مناضلي الجبهة في الداخل خلال شهر مارس 1990 .
المبادرة منذ بدايات عام 1993 بالتحالف والتعاون مع عدد من العناصر الوطنية المدنية والعسكرية داخل ليبيـا من أجل الإعداد لعمل عسكري كبير وشامل يهدف إلى الإطاحة بالنظام القائم في ليبيـا، وهي العملية التى عرفت بإنتفاضة بني وليد العسكرية في اكتوبر من عام 1993 والتى قام النظام إثر إكتشافه لها بإعتقال أعداد كبيرة من الإخوة العسكريين والمدنيين كما أصدر بحق بعضهم أحكاماً بالإعدام.
شواهد ودلالات ..
على الرغم مما يمكن أن يكون قد صاحب هذه العمليات والمبادرات كأيّ جهد إنساني من أخطاء ومن إخفاق في تحقيق الهدف النهائي لها والمتمثل في الإطاحة بنظام القذافي ، إلا أنها مع ذلك ستظل شاهداً على روح الإقدام والإقتحام والجسارة التى جسّدتها الجبهة ، وروح البطولة والفداء التى تحلّى بها رجالها ، وبعد النظر الاستراتيجي الذي طبع عملها ونضالها.
لقد نقلت عملية مايو 1984 المعركة إلى داخل حدود ليبيـا، بعد أن تصوّر القذافي أنه سوف يبقيها بل وأن يحسمها مع خصومه خارج تلك الحدود.
كما جسّد استنفار عام 1985 قدرة الجبهة على إقامة التحالفات الإقليمية ومع شتى العناصر الوطنية العسكرية والمدنية بمن فيها العناصر القريبة من القذافي والمقربة إليه من أجل تحقيق هدف الإطاحة به .
كما جسّد تأسيس الجيش الوطني الليبي " الجناح العسكري للجبهة " في عام 1988 قدرة الجبهة على الإقدام على إرتياد أخطر السبل من أجل بلوغ أهدافها وأهداف شعبنا.
كما جسّدت تجهيزات عام 1990 استعداد رجال الجبهة الدائم لبذل التضحيات وركوب المخاطر ومفاجأة القذافي.
كذلك فقد جسّدت انتفاضة اكتوبر قدرة الجبهة على كسر أقوى تحالفات القذافي القبلية والعسكرية وتأليبها ضده من أجل مصلحة الوطن وتحقيق أهداف شعبنا.
وفضلا عن هذه المشروعات النضالية الاستراتيجية فقد نجحت الجبهة في أن يكون لها :
الحضور الإعلامي المكثف ، عبر برامجها الإذاعية الموجهة إلى داخل ليبيـا، ومجلتها وبقية إصداراتها ومطبوعاتها المقروءة والمسموعة والمرئية والذي قامت من خلاله بتعرية النظام وحشد الليبيين ودعوتهم للتحرك ضده.
الحضور السياسي المتواصل في شتى عواصم العالم ولدي المنظمات الدولية والإقليمية ولدي الهيئات المعنية بحقوق الانسان وفي وسائل الإعلام العربية والأجنبية ، من أجل تعرية ممارسات القذافي والتعريف بقضية الشعب الليبي وطلب النصرة لها ، وتأليب الرأي العام العربي والعالمي ضد النظام الجاثم على أنفاس شعبنا.
الحضور الشعبي والنقابي ، من خلال مختلف أنواع الملتقيات والاشكال التنظيمية للجبهة ومن خلال مشاركة عناصرها في عدد من النشاطات الاحتجاجية وفي تأسيس وتفعيل النقابات والإتحادات الطلابية والمهنية .
ملاحقة الجبهة ورجالها..
لم يكن مستغربا في ظل كل ذلك ، أن تصبح ملاحقة الجبهة والسعي لتحطيمها بكل السبل والحيل همّ القذافي المقيم المقعد، ( وكما كان شأنه مع بقية العناصر الوطنية المعارضة في الداخل والخارج) وأن يقوم من أجل تحقيق هذه الغاية بمصالحة خصومه وأعدائه السياسيين على امتداد الساحة العربية والافريقية والعالمية سعياً لتضييق الخناق على الجبهة ولمحاصرتها ، وأن يرصد الملايين من الدولارات من أجل شراء الذمم والأقلام ومختلف أنواع المرتزقة والعملاء بغية تشويه هوية الجبهة ، وبهدف النيل من رجالها بل وبتصفيتهم والقضاء عليهم .
لقد استبدّت الرغبة بالقذافي في ملاحقة الجبهة والقضاء عليها حدا جعلته اسيراً لها، وأدّت به جهوده المحمومة في هذا الصدد إلى ارتكاب العديد من الجرائم والحماقات السياسية التى زادت بدورها من ربكة النظام وضاعفت بالتالي حملته على الجبهة وتصميمه على التأمر من أجل القضاء عليها.
فكما هو معروف ...
فقد قام القذافي في شهر مارس من عام 1984 بإصار أوامره لطياريه العسكريين بضرب مبنى إذاعة أم درمان السودانية ، معتقداً بأن إذاعة الجبهة تقوم ببث إرسالها من ذلك المبنى.
وفي شهر أبريل من ذات العام قام عملاء القذافي بإطلاق الرصاص على الليبيين المتظاهرين أمام مبنى السفارة الليبيـة في العاصمة البريطانية ، الأمر الذي أدّى إلى مصرع الشرطية البريطانية " ايفون فليتشر " وإلى جرح عشرات المتظاهرين الأمر الذي أدّ إلى طرد كافة موظفي سفارة القذافي وقطع العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا وبين نظامه.
كما ترتتب على نشاط الجبهة بين الحجيج الليبيين خلال مواسم الحج منذ عام 1401 هـ 1981 م ( وكما هو معروف فقد صادف يوم السابع من اكتوبر 1981 يوم عرفة لعام 1401 هـ) ترتب على ذلك النشاط قيام القذافي في أعقاب عملية معسكر باب العزيزية ( مايو/ شعبان 1404 هـ) بإرسال عدد كبير من مرتزقته أعضاء اللجان الثورية على متن إحدى الطائرات الليبية خلال موسم حج عام 1404 هـ / 1984م مزودين بمختلف الأسلحة والمتفجرات بهدف ملاحقة عناصر الجبهة أثناء مناسك الحج. الأمر الذي اضطر السلطات السعودية بعد اكتشافها لأمرهم إلى إلقاء القبض عليهم ومنعهم من دخول الأراضي السعودية ، وإرجاعهم إلى القذافي بعد التحقيق معهم وتوثيق ذلك التحقيق.